فصل: باب الدعاء:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.هذا باب من المجاز:

أما قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ} وهو إنما ذكر سماء واحدة، فهذا لأن ذكر {السماء} قد دل عليهن كلّهنّ. وقد زعم بعض المفسرين أن {السماء} جميع مثل اللبن. فما كان لفظه لفظ الواحد ومعناه معنى الجماعة جازان يجمع فقال: {سَوّاهُنَّ} فزعم بعضهم أن قوله: {السَّمَاءُ مُنفَطِر بِهِ} جمع مذكر كاللّبن. ولم نسمع هذا من العرب والتفسير الأول جيد. وقال يونس: {السَّمَاءُ مُنفَطِر بِهِ} ذكر كما يذكر بعض المؤنث كما قال الشاعر: من المتقارب وهو الشاهد الحادي والثلاثون:
فلا مُزْنَة وَدَقَتْ وَدْقَها ** ولا أرضُ أبقلَ إبقالَها

وقوله: من المتقارب وهو الشاهد الثاني والثلاثون:
فإمّا تَرَيْ لِمَّتى بُدِّلَتْ ** فإنَّ الحوادِثَ أَوْدَى بِها

وقد تكون السماء يريد به الجماعة كما تقول: هَلَكَ الشاةُ والبعيرُ يعني كل بعير وكل شاة. وكما قال: {خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} أي: من الأرضين.
وأما قوله: {اسْتَوى إلى السماء} فان ذلك لم يكن من الله تبارك وتعالى لتحول، ولكنه يعني فعله كما تقول: كان الخَلِيفَة في أهْلِ العراق يوليهم ثم تحوّل إلى أَهلِ الشام إنما تريد تحول فعله.
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِل فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}.
أما قولُ الملائِكَة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا} فلم يكن ذلك انكارا منهم على ربهم، إنما سألوا ليعلموا، وأخبروا عن أنفسهم أنهم يُسَبِّحون ويُقَدِّسون. أو قالوا ذلك لأنهم كرهوا أَنْ يُعْصى الله، لأن الجن قد كانت أمرت قبل ذلك فعصت.
وأما قَوْلُه: {نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} وقال: {وَالْمَلاَئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} وقال: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} فذلك لأن الذكر كله تسبيح وصلاة. تقول: قَضَيْتُ سُبْحتي من الذكِر والصَلاة فقال سَبِّح بالحَمْد. أي: لتَكُنْ سُبْحَتُكَ بالحَمْدِ لله. وقوله: {أَتَجْعَلُ فِيهَا} جاء على وجه الاقرار كما قال الشاعر: من الوافر وهو الشاهد الثالث والثلاثون:
أَلَسْتُمْ خيرَ مَن رَكِبَ المطايا ** وأنْدى العالَمِينَ بطونَ راحِ

أي: أنتم كذلك.
{وَعَلَّمَ ءَادَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤلاء إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ}.
قوله: {الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ} فيريد عرض عليهم أصحاب الأسماء ويدلك على ذلك قوله: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤلاء} فلم يكن ذلك لأن الملائكة ادّعوا شيئا، إنما أخبر عن جهلهم بعلم الغيب وعلمه بذلك وفعله فقال: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤلاء إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} كما يقول الرجل للرجل: أَنْبِئْني بهذا إنْ كنتَ تَعْلَم وهو يعلم أنه لا يعلم يريد أنه جاهل. فأعظموه عند ذلك فقالوا: {سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا} [32] بالغيب على ذلك. ونحن نعلم أنه لا علم لنا بالغيب إخبارًا عن أنفسهم بنحو ما خبر الله عنهم. وقوله: {سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا} فنصب سبحانَكَ لأنه أراد نسبِّحكَ جعله بدلا من اللفظ بالفعل كأنه قال: نُسَبِّحُكَ بسُبْحانِكَ ولكن سُبْحان مصدر لا ينصرفُ. وسُبْحان في التفسير: براءة وتنزيه قال الشاعر: من السريع وهو الشاهد الرابع والثلاثون:
أقولُ لَمّا جاءني فَخْرُه ** سُبحانَ من عَلْقَمةَ الفاخِرِ

يقول: براءة منه.
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}.

.هذا باب الاستثناء:

قوله: {فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ} فانتصب لأنك شغلت الفعل بهم عنه فأخرجته من الفعل من بينهم. كما تقول: جاءَ القومُ إلاّ زيدًا لأنَّك لما جعلت لهم الفعل وشغلته بهم وجاء بعدهم غيرهم شبهته بالمفعول به بعد الفاعل وقد شغلت به الفعل.
وقوله: {أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ} ففتحت: {استكبرَ} لأن كل فَعَلَ أو فُعِلَ فهو يفتح نحو: {قَالَ رَجُلاَنِ} ونحو: {الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} ونحو: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} ونحو: {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} لانّ هذا كله فَعَلَ وفُعِلَ.
{وَقُلْنَا يَاءَادَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَاذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ}.

.باب الدعاء:

قوله: {يَا آدَمُ اسْكُنْ} و: {يَاءَادَمُ أَنبِئْهُمْ} [33] و: {يافِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُول} فكل هذا إنما ارتفع لأنه اسم مفرد، والاسم المفرد مضموم في الدعاء وهو في موضع نصب، ولكنه جعل كالأسماء التي ليست بمتمكنة. فإذا كان مضافا انتصب لأنه الاصل. وإنما يريد أعني فلانا وأدعو وذلك مثل قوله: {يَاأَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا} و: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} إنما يريد: يا ربِّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وقوله: {رَبَّنا تَقبِّلْ مِنّا}.

.هذا باب الفاء:

قوله: {وَلاَ تَقْرَبَا هَاذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ} فهذا الذي يسميه النحويون جواب الفاء. وهو ما كان جوابا للامر والنهي والاستفهام والتمني والنفي والجحود. ونصب ذلك كله على ضمير أنْ، وكذلك الواو. وإن لم يكن معناها مثل معنى الفاء. وإنما نصب هذا لأن الفاء والواو من حروف العطف فنوى المتكلم أن يكون ما مضى من كلامه اسما حتى كأنه قال لا يكُنْ منكما قربُ الشجرة ثم أراد أن يعطف الفعل على الاسم فأضمر مع الفعل أَنْ لأنَّ أَنْ مع الفعل تكون اسما فيعطف اسما على اسم. وهذا تفسير جميع ما انتصب من الواو والفاء. ومثل ذلك قوله: {لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ} هذا جواب النهي و: {لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ} جواب النفي. والتفسير ما ذكرت لك.
وقد يجوز إذا حسن أن تجري الآخر على الأول أن تجعله مثله نحو قوله: {وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} أي: وَدُّوا لَوْ يُدْهِنُونَ.
ونحو قوله: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ} جعل الأول فعلا ولم يَنْوِ به الاسم فعطف الفعل على الفعل وهو التمني كأنه قال: وَدُّوا لو تَغْفَلونَ وَلَوْ يَمِيلُونَ وقال: {لاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} أي لا يؤذَن لَهُمْ ولا يَعْتَذِرُونَ. وما كان بعد هذا جواب المجازاة بالفاء والواو فان شئت أيضا نصبته على ضمير أن إذا نويت بالأول أن تجعله اسما كما قال: {إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ} {وَيَعْلَمَ الَّذِينَ} فنصب، ولو جزمه على العطف كان جائزا، ولو رفعه على الابتداء جاز ايضًا. وقال: {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ} فتجزم: {فَيَغفِر} إذا أردت العطف، وتنصب إذا أضمرت إنْ ونويت أن يكون الأول اسما، وترفع على الابتداء وكل ذلك من كلام العرب. وقال: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ} ثم قال: {وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَاءُ} فرفع: {وَيَتُوبُ} لأنَه كلام مستأنف ليس على معنى الأول. ولا يريد قاتلوهم: يتبْ الله عليهم ولو كان هذا لجاز فيه الجزم لما ذكرت. وقال الشاعر من الوافر وهو الشاهد الخامس والثلاثون:
فإِنْ يهلِكْ أبو قابوس يهلِكْ ** ربيعُ الناسِ والشَهْرُ الحرامُ

ونُمْسِكَ بعدَه بذِنابِ عيشٍ ** أجبِّ الظهرِ ليس له سنامُ

فنصب ونمسكَ على ضمير أَنْ ونرى أَنْ يجعل الأول اسما ويكون فيه الجزْم أيضا على العطفِ والرفعُ على الابتداء. قال الشاعر: من الطويل وهو الشاهد السادس والثلاثون:
ومَنْ يَغتربْ عن قومِهِ لا يَزَلْ يرى ** مصارعَ مظلومٍ مجرّا ومَسْحُبا

ومَنْ يغتربْ عن قومِهِ لا يَجِدْ لهُ ** على مَنْ لهُ رَهْط حواليهِ مغْضبا

وتُدْفنُ منه المحسَنات وإن يُسِئ ** يَكُنْ ما أساءَ النار في رأسِ كَبْكَبا

فتُدفنُ يجوز فيه الوجوه كلها. قال الشاعر: من الطويل وهو الشاهد السابع والثلاثون:
فإن يَرْجعِ النعمان نَفْرَحْ ونَبْتَهِجْ ** ويأتِ مَعَدًّا مُلْكُها وربيعُها

وإِنْ يَهْلِكِ النعمانُ تُعْرَ مَطِيَّة ** وتُخْبَأُ في جوفِ العياب قُطُوعها

وقال تبارك وتعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} فهذا لا يكون إلا رفعا لأنه الجواب الذي لا يستغنى عنه. والفاء إذا كانت جواب المجازاة كان ما بعدها أبدا مبتدأ وتلك فاء الابتداء لا فاء العطف. إلا ترى أنك تقول: إن تأتِني فأمُركَ عندي على ما تحبُّ.
فلو كانت هذه فاء العطف لم يجز السكوت حتى تجيء لما بعد إنْ بجواب. ومثلها: {وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا} وقال بعضهم: {فَأُمَتِّعُهُ ثُمَّ أَضْطَرُّهُ} ف {أَضْطَرُّهُ} إذا وصل الألف جعله أَمْرا. وهذا الوجه إذا أراد به الأمر يجوز فيه الضم والفتح. غير أن الألف ألف وصل وإنما قطعتها ثُمَّ في الوجه الآخر، لأنه كل ما يكون معناه أَفْعَلُ فإنه مقطوع، من الوصل كان أو من القطع. قال: {أَنَاْ آتِيكَ بِهِ} وهو من أتى يأتي وقال: {أَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً} فترك الألف التي بعد ألف الاستفهام لأنها ألف أفعل وقال الله تبارك وتعالى فيما يحكى عن الكفار: {لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ} فقوله: {فَأَصَّدَّقَ} جواب للاستفهام، لأنَّ: {لَوْلا} هاهنا بمنزلة هلا وعطف: {وَأَكُن} على موضع: {فَأَصَّدَّقَ} لأنَّ جواب الاستفهام إذا لم يكن فيه فاء جزم. وقد قرأ بعضهم: {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُونَ} عطفها على ما بعد الفاء وذلك خلاف الكتاب. وقد قرئ: {مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ} جزم. فجزم: {يَذَرْهُم} على أنه عطف على موضع الفاء لأن موضعها يجزم إذا كانت جواب المجازاة، ومن رفعها على أَنْ يعطفها على ما بعد الفاء فهو أجود وهي قراءة. وقال: {وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْر لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم} جزم ورفع على ما فسرت. وقد يجوز في هذا وفي الحرف الذي قبله النصب لأنه قد جاء بعد جواب المجازاة مثل: {وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا} و{وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} فانتصب الآخر لأنَ الأوّلَ نوى أن يكون بمنزلة الاسم وفي الثاني الواو. وإن شئت جزمت على العطف كأنك قلت ولمّا يعلمِ الصابرين.
فان قال قائل: ولما يَعْلمِ الله الصابرين: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ} فهو لم يعلمهم؟ قلت بل قد علِم، ولكنّ هذا فيما يذكر أهل التأويل ليبين للناس، كأنه قال: ليَعْلَمَه الناسُ كما قال: {لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُواْ أَمَدًا} وهو قد علم ولكن ليبين ذلك. وقد قرأ أقوام أشباه هذا في القرآن: {لِيُعْلَم أَيُّ الحزبين} ولا أراهم قرأوه إلاَّ لجهلهم بالوجه الآخر.
ومما جاء بالواو: {وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ} إنْ شئتَ جعلت: {وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ} نصبًا إذ نويت أن تجعل الأول اسما فتضمر مع: {تَكْتُمُوا} أَنْ حتى تكون اسما. وإن شئت عطفتها فجعلتها جزما على الفعل الذي قبلها. قال: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا} فعطف القول على الفعل المجزوم فجزمه. وزعموا أنه في قراءة ابن مسعود: {وَأَقُولُ لَّكُما} على ضمير أَن ونوى أَنْ يجعل الأوَّلَ اسما، وقال الشاعر: من الطويل وهو الشاهد الثامن والثلاثون:
لقد كان في حَوْلٍ ثَواءٍ ثويته ** تَقَضِّي لُباناتٍ وَيَسْأمَ سائِمُ

- ثواء وثواءً أو ثواءٍ رفع ونصب وخفض- فنصب على ضمير أَنْ لأن التقضي اسم، ومن قال: فَتُقْضى رفع: ويسأمُ لأنه قد عطف على فعل وهذا واجب، وقال الشاعر: من الطويل وهو الشاهد التاسع والثلاثون:
فإِنْ لم أصدِّقْ ظَنَّكُمْ بتَيقُّنٍ ** فَلا سَقَتِ الأوْصالَ مِنّي الرّواعِدُ

ويَعلمَ أكفائي من الناسِ أَنَّني ** أَنَا الفارسُ الحامي الذمارِ المذاودُ

وقال الشاعر: من الوافر وهو الشاهد الأربعون:
فإن يقدِرْ عليكَ أبو قُبَيْسٍ ** نَمُطَّ بِكَ المَنِيَّة في هَوانِ

وَتُخْضَبَ لِحيَة غَدَرَتْ وخانتْ ** بِأَحْمَرَ من نَجِيعِ الجَوْفِ آنِ

فنصب هذا كله لأنه نوى أن يكون الأوّل اسما فأضمر بعد الواو أنْ حتى يكون اسما مثل الأول فتعطفه عليه. وأما قوله: {لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ} و: {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} فهذا على جواب التمني، لأنَّ معناه لَيْتَ لَنّا كَرَّةً. وقال الشاعر: من الوافر وهو الشاهد الحادي والأربعون:
فلستُ بمدركٍ ما فاتَ مني ** بلهفَ ولا بليتَ ولا لواني

فأنزل لوَاني بمنزلة ليْتَ لأن الرجل إذا قال: لَو أنّي كنتُ فعلتُ كذا وكذا فانما تريد ودِدتُ لو كنتُ فَعلْتُ. وإنَّما جازَ ضمير أَنْ في غير الواجب لأن غير الواجب يجيء ما بعده على خلاف ما قبله ناقضا له.
فلما حدث فيه خلاف لأوله جاز هذا الضمير. والواجب يكون آخره على أوله نحو قول الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً} فالمعنى: إسمعوا أنزلَ اللّهُ من السماءِ ماءً فهذا خبر واجب و: {أَلَمْ تَرَ} تنبيه. وقد تنصب الواجب في الشعر. قال الشاعر: من الوافر وهو الشاهد الثاني والأربعون:
سأترُكُ منزلي لِبني تَميمٍ ** وأَلْحَقُ بالحجاز فأستريحا

وهذا لا يكاد يعرف. وهو في الشعر جائز. وقال طرفة من الطويل وهو الشاهد الثالث والأربعون:
لها هَضْبَة لا يَدْخُلُ الذُلُّ وَسْطَها ** ويأوى اليها المستجيرُ فيُعْصَما

واعلم أن اظهار ضمير أن في كل موضع أضمر فيه من الفاء لا يجوز إلا ترى إنك إذا قلت: لا تأتِه فيضرِبَك لم يجز أن تقول: لا تأْتِه فأنْ يضرِبَكَ وإنما نصبته على أنْ فلا يسحن اظهاره كما لا يجوز في قولك عسى أنْ تفعلَ: عسى الفعل ولا في قولك: ما كان ليفعل: ما كان لأن يفعل ولا إظهار الاسم الذي في قولك نعم رجلًا فرب ضمير لا يظهر لأن الكلام إنما وضع على أن يضمر فإذا ظهر كان ذلك على غير ما وضع في اللفظ فيدخله اللبس.
{فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرّ وَمَتَاع إِلَى حِينٍ}.
أما قوله: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا} فإنما يعني الزَلَلَ تقول: زَلَّ فلانُ وأَزْلَلْتُه و: زالَ فلانُ وأَزالَهُ فُلانُ والتضعيف القراءة الجيدة وبها نقرأ. وقال بعضهم:
{فأزالَهُما} أخذها من زَالَ، يزولُ. تقول: زالَ الرجلُ وأزالَهُ فلان.
وقال: {اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ} فإنما قال: {اهْبِطُواْ} والله أعلم لأنّ إبليسَ كان ثالثهم فلذلك جمع.
{فَتَلَقَّى ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}.
قوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ} فجعل آدم المتلقى. وقد قرأ بعضهم: {آدمَ} نصبا ورفع الكلمات جعلهن المتلّقِيات.
{قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْف عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}.
قال: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ} وذلك أن إمّا في موضع المجازاة وهي إما لا تكون إما وهي إنْ زيدت معها ما وصار الفعل الذي بعدها بالنونِ الخفيفةِ أو الثقيلة وقد يكون بغير نون. وإنَّما حسنت فيه النون لما دخلته ما لأنَّ ما نفي وهو ما ليس بواجب وهي من الحروف التي تنفي الواجب فحسنت فيه النون نحو قولهم بِعينٍ مّا أَرَيَنَّك حين أدخلت فيها ما حسنت النون. ومثل إمّا هاهنا قوله: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البَشَرِ أَحَدًا} وقوله: {قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلاَ تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} فالجواب في قوله: {فَلاَ تَجْعَلْنِي}. وأشباه هذا في القرآن والكلام كثير. واما إمّا في غير هذا الموضع الذي يكون للمجازاة فلا تستغني حتى ترد إمّا مرتَيْن نحو قوله: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} ونحو قوله: {حَتَّى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ إِمَّا العَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ} وإنما نصب لأنّ إمّا هي بمنزلة أوْ ولا تعمل شيئًا كأنه قال: هَدَيْناهُ السبيلَ شاكرًا أوْ كَفُورا فنصبه على الحال وحتى رَأَوْا ما يُوعَدُون العذابَ أَوْ الساعة فنصبه على البدل.
وقد يجوز الرفع بعد إمّا في كل شيء يجوز فيه الابتداء ولو قلت: مررت برجل إمّا قاعدٍ وإمّا قائمٍ جاز. وهذا الذي في القرآن جائز ايضًا، ويكون رفعا إلا أنه لم يقرأ.
وأما التي تستغني عن التثنية فتلك تكون مفتوحة الألف أبدا نحو قولك أَمّا عبد الله فمنطلق وقوله: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائلَ فَلاَ تَنْهَرْ} و: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ}. فكلُّ ما لم يحتج فيه إلى تثنيةِ أَمّا فألفها مفتوحة إلا تلك التي في المجازاة.
وأَمّا أيضا لا تعمل شيئا إلا ترى إنك تقول: {وَأَمَّا السَّائلَ فَلاَ تَنْهَرْ} فتنصبه ب {تنهر} ولم تغيّر أمّا شيئا منه.